أول مرة
أول مــرة
يعايش المرء في استدامة حياته الموسيقية وبناء على المقولة الشعبية “عيش كتير، بتشوف كتير”، حالات مثيرة ومضحكة إلى أن يكتسب مناعة عدم تكرارها، لكنها في الاساس كانت قد حصلت ولأول مرة.
إنها عمًان ومسرح البلد لم يتجاوز عمره الثلاث سنوات، يستقبل مجموعتي الموسيقية بحفاوته المعهودة. أثناء العرض الموسيقي وعند انتهاء إحدى المقطوعات الموسيقية، تقف شابة في وسط الحضور وتسألني عن صاحب نص الاغنية. لم أفهم السؤال فالموسيقي منشغل عادة في تأدية واجبه على المسرح. ويبدو أن الاغنية نالت إعجابها أو ربما لانها كانت ستغادر العرض، فلم تتخل عن شجاعتها مكررة السؤال.
أخبرتها عبر مكبر الصوت عن إسم صاحب النص وبوادر الامتعاض تزحف على وجهي، ومن أجل طرد شر الامتعاض وباستعانتي بسُلْطة الواقف على المسرح، سألتها مازحاَ اذا كانت متزوجة! صفق الجمهور و ضحك ولكن الشابة أجابت بأنها عزباء، وحتى لا يتحول العرض الموسيقي الى حفلة تحث على الزواج بادرت والفرقة بالانتقال السريع الى البرنامج الموسيقي. لكن قبل انتهاء الفصل الاول من العرض صاح أحد الاصدقاء، وهو من الذين على معرفة بأصلي وفصلي ويبدو أنه أحب رياضة استكمال الاستجواب العلني والحوار الديمقراطي بين الموسيقي والجمهور، فسألني على الملأ اذا كنت متزوجا! بعد ترددِ دام ثوان قلت للجمهور: أنا متزوج، لكن عن حب! والرد كان للقريب وليس للبعيد. مجدداَ صفق الجمهور بحرارة شديدة مقفلاَ الحوار الصحفي ومناشداَ بالمزيد من الموسيقى. أنتهت الحفلة ووضبنا الآلات الموسيقية وصاحبة السؤال تريد اجراء حوار صحفي شامل. بعد استدراكي ان مخزون اسئلتها هائل، صارحتها بأني اريد معانقة سريري المنفرد لبضع ساعات من النوم، لأن حفلة عمان هي الرابعة على التوالي وغداَ سألعب في ڤينّا والتي سأصل إلى مطارها عبر دمشق. وأن تجربة التنقل البريّ بين لبنان وسوريا والاردن خلال ستة أيام في جولة تخللتها أربعة عروض موسيقية إضافة لمخزون من أسئلة صحفية أوصلتني إلى تعب لم أعرفه سابقاَ، ولأول مرة أشعر بتعب يمنعني من النوم.
أول مرة ٢
تتحقق بعض النجاحات في حياة الموسيقي دون التخطيط لها، وهذا لا يعني ان نجاحاَ يتحقق دون تعب التحضير والتنسيق له، لكنه يحدث ان تؤدي برنامجاَ موسيقياَ وينال اعجاب الجمهور ومبرمجي الحفلات الموسيقية، دون توقّع ذلك.
وهذا ما حصل لي مع مجموعة من الموسيقين المقيمين في ڤينّا. زميل بولندي يعزف الاكورديون كان يلعب في شوارع ڤينّا للتغلب على غربة قاسية الى أن تعرفت عليه غالبية مسارح النمسا الموسيقية. وزميل روسي من اصول ڤينّاوية وقوس كمانه يتنقل من موسيقى موزار الى غجريات المجر ماحياً الحدود القائمة بين ألاشكال الموسيقية. ثم زميل آخر وأحد ملوك الاغنية الفينويّة وعازف الغيتار النمسوّي الصنع، وهي آلة موسيقية ذات زندين وتدعى كونترا غيتار، والذي أضاف البلوز الامريكي الى نمط هذه الاعنية التي تتحدث غالباَ عن النبيذ والنبيذ وثم النبيذ. هذا كله إضافة الى زميل برازيلي اشتهر بالحان حزينة على عكس السائد والمعروف عن الموسيقى البرازيلية وكأن تلك البلاد في مهرجانٍ راقص طوال العام. نحن الخمسة، والجامع بيننا هذه المدينة، نجتمع في ثلاث حفلات في أحد المسارح الصغيرة في ڤينّا و سعة المسرح مئة وعشرة مقاعد. لم ندرك حينها ان عدد الحفلات سيتجاوز المئتين عرض وفي جميع مقاطعات النمسا بسبب اندفاع الجمهور لهذه التشكيلة الموسيقية. ولم نعرف حينها اننا سنصدر إسطوانة بتسجيل حيٍّ مع الجمهور. ولم ندرك ايضاَ اننا سنلتقي يوماً في حافلة تنقلنا الاف الاميال حيث عزفنا في اثنتين وعشرين حفلة في جولة واحدة لم يسلم منها أي من كبرى المدن النمسوّية.
أما أنا فلم ادرك أني ولأول مرة وقبل الحفلة الاخيرة لجولتنا الاخيرة بساعات، وبعد سماع نِكاتنا المتكررة حينا وتجاهلها في احيان اخرى في حافلة النقل او على موائد الاكل البطيئ او السريع منه ولمدة شهر، وبعد تكرار البرنامج الموسيقي عينه مع إختلاف الجمهور ومشاربه، لم ادرك بأني سأودع هذه الجولة بزجاجة ويسكي اسكتلندي. زجاجة لم يستطع أحد أن يشاركني فيها، ولم تمنعني الملعونة من صعود المسرح وإمساكي بعودي والعزف مع زملائي الموسيقيين. الشيء الوحيد واللافت وطبعاَ الاكثر للآخرين، هو ضحكي الدائم. كلما حاولت أن ابعد الضحك عني، خرج مني أقوى. والانكى من ذلك، أني كنت موكلاً بقراءة قصة عربية عن الميلاد في اللغة الالمانية. وخلال القراءة كنت اقاوم الضحك وكان ذلك من الاشياء المستحيلة الى أن وصلت إلى جملة في القصة تقول: “وعندما انتهى الخياط من عمله…” وما كان مني وانا ثمل إلا أن قلت الجملة التالية: “وعندما انهى الخياط على زوجته…” وينفجر كل من تواجد في المسرح بالضحك.
حينها ارتحت شخصياَ من كبح جماح ضحكي، وانتهت ريبة زملائي مني حيث لم يعهدوا هذه النسبة من „الروحية” في دمي. ولأول مرة أودّع جولة موسيقية عارمة بمثل هذا الفرح الطفولي نحو الاستراحة.
Comments are closed