العود مرآة العرب
إنه العود، مَفخرة العرب منذ أن تلقفه اصحاب لغة الضاد في الحيرة في القرن السادس الميلادي، وجردوه من وجهه الجلدي كما عرفه وصنعه الفرس، ليصبح خشبياً قلباً وقالباً، وتحول من تسميته الفارسية “ﭘرﭘط” الى عود في العربية. كان العود في القِدم يحمل اربعة من الاوتار المزدوجة، رامزاً بذلك لسوائل الانسان الاربعة، او لحالات البشر الاربعة، الى أن اصطحبه العرب معهم الى سواحل اوروبا الاسبانية ليسمى في اللاتينية على وقع اسمه العربي، “لاأود”، ويضخ زرياب في سوائله الاربعة روحاً جديدة، فيضيف الوتر الخامس رمزاً للروح.
إنه العود، بوح وإباحية العرب، مما حدا ببعض أهل الكتاب بذم الوتر، فصوت الجّن في العربية هو العزف، وذم المعازف ليس لحُرْمتها في الاصل، انما لدعوتها لمجالس الخمر والفجور.إنه سهل الاقتناء، خفيف الظل ان نطق، يرافق القصيدة دون ضعضعة أركانها، يعطي المغني شباك للسهر، وللمؤلف حجة في التلحين، وللمنَظِر في العلوم قواعداً للمقامات، وللمستمع فرصة للبكاء أو للفرح.
إنه العود، الناطق بألسِنِة العرب، اناثاً وذكوراً، من محيطهم الى خليجهم، من قديمهم الى جديدهم، في كتبهم ومعارفهم، في اسطوانة الشمع “البيضافونية” القاهرية الى اسطوانة مُدمجة عالمية. من الاساطنة المصريين في القصيدة الى بغداد الشريف محي الدين حيدر في رفع العود الى آلة مستقلة، معتمدة على نفسها في التعبير، حيث القصيدة طالقة أبدية تجدها في المقام ترنيماً دون حروف، وتصبح الموسيقى العربية لغة كونية لا تحتاج الترجمة.
إنه العود، تجده في بلاط السلاطين والملوك، في صالونات الطلائع ، تلقاه في حلقات الفلاحين والعمال، في نزهات المدارس والجامعات، وجزء من جدران بيوت للزينة.
أما أخشاب العود فقد تأتي من كندا أو من تركيا.
أما اوتار العود وريشه، تُصنع في ايطاليا، المانيا، فرنسا، اسبانيا، وقريباً في الصين.
أما حقائب العود ذو الجودة العالية المُخصصة للسفر تأتيك من خارج الخارطة العربية.
أما عودي أنا، فهو أرمني- لبناني الصنع، جنحت به عقود الزمن ورمته في ورشة صانع قيثارة الماني، رممه، واضاف له زنداً جديداً لا يعتدي على سابقه سوى في نوعية الصمغ الجديد. أتى اليّ صانع القيثارة في فريبورغ الالمانية، يريني هذا العود التاريخي كنموذج للأعواد التي بات هو يصنعها ويريدني التعرف والعزف عليها. لم اخف له استمالتي لصوت العود المُرمم، والذي ينطق بحكمة السنين التي بلغها. لم يستطع صانع الاعواد الالماني ان يقاوم رغبتي في اقتناء هذا العود، ورغبة المرء مُكلفة، خاصة عندما تُظهر رغبتك امام محقق الرغبات. باعني العود، الذي كان يعتبره نموذجا، وحقيبة خشنة تتحمل اعباء السفر، وأصبح هذا العود، الى جانب عودين امتلكاني، رفيقي.
إنه العود، مرآة العرب.
Comments are closed