صانع الاعواد
تَذكُرُ إسمه فيعتقد المرء انك تخليت عن عالم الفن وأصبحت تخوض غمار السياسة. اسمه ذو شُهرة واسعة في لبنان، والذي يجمع الاثنان هو فقط الاسم، او على الاقل لا اعرف اذا كان بينهما رابطاً عائلياً. قبل عامين، في أذار 2008 وعند انتهاء حفلنا الموسيقي في قاعة الاسمبلي هول في الجامعة الاميركية، تهرع الي زميلتي الاسترالية جوانا لويس، وعازفة الكمان في الفرقة، وتشير الى المسرح، حيث هناك أحدهم يمسك بعودي. جفلتُ على عودي والتفت نحو المسرح، وابتسمت لجوانا شاكراً: لا تخافي انه صانع الاعواد، من المؤكد ان هناك شيء في صوت العود لم يعجبه، ولذلك يلقي عليه نظراته التفحصية. هدأت جوانا واعُجبت بموقفها وحرصها على أعز ما نملكه كموسيقين أو على الارجح كل ما نملكه. ذهبت الى خشبة المسرح لتقبليه والسؤال عن أحواله. ابتسامته، حرارته وأدبه يُخرجوا المرء من عالم الاحاديث والمجاملات القصيرة، من امكنة تشاهد وتُشَاَهد فيها. دقائق تمر وتكون عينه الفاحصة أعطت تقريرها وكيف انه سيكون في انتظاري في منزله لمعالجة الامر البسيط.
مهما كانت بساطة الخلل في آلة العود، وان كان هو صانعه أم غيره، يسبق المعالجة جلسة محبة، تكون فيها زوجته مكملة لابتسامته، وحرارته وأدبه. وهذه المحبة الجامعة تبدأ مكوناتها من مطبخه، ونملية مشروباته. ثم يأتي بجديده من الاعواد، ويستعرض تطبيقه لبعض التقنيات الحديثة أو الجديدة في هذه آلة أو تلك. وقد يُطرق بابه في هذه الاثناء من زائر قريب أو بعيد، أوهو يهاتف رفقة لاستكمال مراسيم المحبة.
لم أشهد جلسة محبة في منزله دون تُرنم أغاني الموسيقار محمد عبد الوهاب عبر صوته العريض والرخيم وعزف اصابعه المثقلة تعباً في تصليح السيارات الاميركية. الميكانيك كان يوفر اللقمة الكريمة، والموسيقى قوت روحي لاستكمال كرامة العيش الكريم. لا يبيع أعواده إلا اذا عرِف وتعرف على مشتريه وجالسه واستمع اليه. اذا كان المشتري من الغائبين عن لبنان، فلا بد من ترشيحه من اناس يتمتعون بالثقة لديه. ومرة سمعته يقول عن أحد المشترين، بأن العود الذي اشتراه لا يناسبه، ولو ابتاع العود آلاخر كان أفضل له، وكأنه عندما يصنع اعواده يتخيل العازفين المقبلين على اقتناء اعواده.
قادني اليه في تسعينيات القرن الماضي الصديق التصوفي سامي حواط، ووصف التصوف للفنان ليس من منطلق ديني بل لتجرده عن شبكة الاحاديث القصيرة، عن اللامعنى في سرعة الحياة العصرية وأناقتها السطحية. غادرنا الجلسة المعهودة سوية وفي صحبتي عوداً جاهزاً للسفر. وبعد زمن قصير استبدلته بعود آخر، رأينا سوية، صانع الاعواد وأنا، أنه يناسبني.
يتكلم البعض عن أعواده وكأنهم اطفاله، وآخرين يتحدثون عن جودتها والبعض قد لا تعجبه بتاتاً، وهذا ليس محور كتابتي عن صانع الاعواد البير منصور. أعظم ما في الامر أن تجد شخصاً كالاستاذ منصور يحب مهنته، بل يعشقها. وهذا العشق هو دافعه في السبيل الصعب بين قوالب الخشب، وورق السنفرة، والمبارد على اختلاف اسنانها. هو اسلوب في الحياة وفي ممارسة مهنة صانع الاعواد. وضف على هذا العشق متابعته للحفلات الموسيقية في بيروت، وتنسمه الدائم للشرق في جديده وقديمه الموسيقي. اذا نظرنا حولنا نجد كماً من الطاقات السلبية المنتشرة، ضغوطا وكوابيسا يومية تبدأ من أول اشارة مرور نقف أمامها الى حين عودتنا الى منازلنا حيث قد نجد الكهرباء مقطوعة لسبب عدم توفر أي نوع من الطاقة. وهؤلاء الاحبة الذين يعشقون مهنهم يحولون ايامنا الى ساعات جميلة، يغمروننا بقناعاتهم الشخصية دون ارتباك، يتممون لنا ما صنعه الماضي القريب منا بإيجابية المنتج وصبر الفاعل.
ا أعرف اذا كانت كلمة “صانع الاعواد” قد ضُبِطَت في لغتنا العربية، ولا أعرف اذا كانت هذه المهنة إنُزِلت في المراجع الرسمية لاصحاب المهن الحرة، كل ما أدركته ان “صانع الاعواد” هو متمم “للعواد” وصانع الالحان.
Comments are closed