صــداقة
تعرفت عليه في نيسان عام 1999، عندما كانت بيروت تزهو بنفسها كعاصمة ثقافية للعالم العربي. زميلي التركي وضابط الايقاع في فرقتي أعتذر عن المشاركة في عرض بيروت، كون جواز سفره الايطالي انتهت صلاحيته وتجديده من السفارة الايطالية يتطلب وقتاً طويلاً بحيث لن يكون باستطاعته المشاركة في هذا العرض. ولذلك يقترح عليً الاتصال بزميله بيتر روزمانيت الذي يعوّض عنه وأكثر.
وهذا ما فعلته. بيتر عبر عن مخاوفه من العرض، فهو يستخدم الالات الشرقية في ايقاعاته ولأول مرة سيعزف في بلد عربي والجمهور هناك يتوقع منه أن يضرب الايقاع كما هم يعرفونه. قلت له أن الجمهور سيحبه على ذلك، لانه غربي ويضرب الايقاعات العربية، التركية والهندية. والمشكلة الاكبر هي عندي، لأني أعشق هذه المدينة ويصعب على العاشق أن يقدم نفسه للذين يحبهم، أو لنقل بأن اللعبة المحلية في كرة القدم هي أصعب اللعبات. مر العرض بسلام واستلطف الجمهور عرضنا البيروتي في مسرح المدينة والذي كان يقع أنذاك في منطقة كليمنصو.
تعلمت منه الكثير كونه يكُبرني بعقد، وخبرته ومشاركته العديد من الفرق النمسويَة في عروضهم وتسجيلاتهم، في نجاحاتهم وإخفقاتهم، لا تُحصى. وآسف لقولي، أيها القارىء، أني تعلمت وهذا لا يخفف من دور بطولتي وليس تعبيراً عن تواضع كاذب. الاساتذة الصينيون الكبار في الموسيقى عندما يهمون بالعزف في حفلاتهم يطلبون من الله التوفيق في التدريب، أي أنهم يعتبرون عروضهم الفائقة الكمال شيئاً من التدريب، أي كل حفلاتهم هي تحضير للوصول الى عالم الكمال في الموسيقى.
وبيتر تعلم مني ما أعرفه في الموسيقى والايقاع الشرقي. وتجاوزت المعرفة حدود الدائرة الموسيقية: إستكشاف ما وراء الطبول والاوتار من عوالم وثقافات عند الآخر، ولم يحدث بيننا، رغم اختلافنا، أخداش في حواجز الاحترام المتبادل. وخرجت اولى اسطواناتنا المشتركة “مراكب” عن البحر الفلسطيني الضائع والذي وجدته نصاً في كتاب أغاني العمل والعمال في فلسطين للكاتب علي الخليلي، من ڤينَا عبر شركة انتاج باريسية. ومراكبنا ما زالت تُبحر حتى كتابة هذه السطور.
واسطوانة “مراكب” كنا قد سجلناها بدون عقد من شركة منتجة. وأذكر يومها كيف أخرجت خمسة نُسخ تحتوي على بعض المقطوعات الموسيقية المُسجلة، وارفقتها بنبذة عنا، وبعض مقالات الصحافة من اجل ارسالها لبعض الشركات الموسيقية. وكان في بالي ان شركات الانتاج يصلها يومياً العشرات من التسجيلات من مختلف البلدان، فكيف سيستمعون الى “مراكب”. فما كان مني الا أن وضعت أكياساً صغيرة تستخدم للحلوى وعبئتها بزعتر حيفاوي طازج والصقتها بالرسائل المرفقة للاسطوانة. ايام وجيزة مرت وفرح داخلي يغمرني عندما وصلني رد ايجابي من شركة فرنسية تود انتاج الاسطوانة. وسؤالي الساخر لبيتر: هل أعجبتهم الموسيقى أم طعم الزعتر؟
عشر سنوات مرت ونحن ما زلنا نصعد خشبات المسارح بِنَفْسٍ مشترك، وعَزفنا يزداد أناقة في التعبير ويتجاوز ما هو منوّت موسيقياً، حيث أصبحت المدونات الموسيقية هيكلاً نُلبِسه أثواباً زاهية الالوان. قد يعزف مقطوعاتنا موسيقيون أفضل منا بكثير، ولكن لن تُنَطْق مثلما تنَطُقهَا هذه الصداقة. فالموسيقى التي نعزفها هي عبارة عن مؤامرة بيننا، ولكنها لا تنبع يوماً من استهتار بالجمهور، فهي مؤامرة جادة ومحكمة التدبير.
تحدثت عن ثمار هذه الصداقة ولن أدخل في تعرجاتها ومشكلاتها، وكل صداقة خالية المشاكل لا تُعمد في هيكل الصداقات. والحديث في ثمار الصداقة هي فرصة احتفالية ومنبر للدفاع عنها، لأنها حقاً من العملا ت الصعبة في مختلف الازمنة. لن أصف هذا الزمن الذي نعيشه، ليس لأنه غنيُ عن التوصيف، بل غالبيتنا تشارك في طقوس العويل اليومي على هذا الزمن. وربما في هذه الصداقة همساً باتجاه زمنٍ مجهول ولكنه يستحق المعرفة.
Comments are closed