ضعف الايمان في حشو البنيان
“لا نجد في الفن شيئاً مريحاً
أو عملاً مفيداً، بل نعثر على تفتّح للحقيقة”.
(هيغل من “علم الجمال III”)
تستوقفني أقوال بعض المطربين الجدد عن أعمال موسيقية غنائية شارك في تحقيقها سبعون عازفاً. أقوال يخال المرء من خلالها انه حيال عمل موسيقي ضخم شديد الخطورة. وفي السماع الدقيق للعمل يكتشف المستمع الكمية وينتقد النوعية. جمل موسيقية رتيبة ومضخّمة من دون تميّز بين جموع العازفين.
تعاودني هنا صورة “لقاء السِّحاب” (التسمية الرسمية) الذي مهد له الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عام 1963 بين القمّتين في الغناء المصري محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، وغيتار عمر خورشيد عازفاً مقدمة “أنت عمري”. صورة مشابهة أو بالأحرى مكمّلة لمثل التصريحات أعلاه.انساق جيل نهضة الموسيقى العربية الى المشهد الموسيقي – المناخي حيث انتصر المطرب. همّش هذا الجيل، رغم انجازاته الكبيرة، دائرة السماع لدى المتلقّي، حتى أمسى وعينا الموسيقي مرتبطاً بالأغنية، واسترخت الحداثة في الموسيقى العربية في أحضان الجمالية المستعارة.
وفي حين ساد الاسترخاء لدى جيل النهضة، انطلقت الحركات الفنية الأخرى في الثقافة العربية في طرح الاشكاليات والتساؤلات حول موضوع الحداثة منذ منتصف القرن الماضي، عجزت الحركة الموسيقية العربية لاحقاً عن طرحها، واتخذت الحداثة أشكالاً بنيوية جديدة لم تعهدها الثقافة العربية من قبل، فتخلّى كمّ هائل من الشعراء عن عروض الشعر وصولاً الى قصيدة النثر، وتشكّلت الرواية والقصّة والقصة القصيرة، وتحوّل مسرح الظلّ الى مسرح درامي او غنائي، وأضحت اللوحة تشكيلاً مجرّداً فحسب.
ومع نشوء الكيانات العربية المختلفة تشكّلت الأغنية الممثلة لها, وتخرجت من معاهد الموسيقى في العواصـم العـربية اجيال جديدة من الموسيقيين والعازفين على الآلات الغربية لوفرة المناهج والأساتذة، تبعها جيل موسيقي متمكّن على مستوى الآلات الشرقية في منهجية غربية، فالموسيقى العربية كانت تراثاً شفوياً الى منتصف القرن الثامن عشر، فضلاً عن النظرة الدونيّة الى الموسيقى العربية في معاهد التعليم الموسيقي.
استندت موسيقانا العربية تاريخياً في بنيانها الصوتي والنظري الى “كتاب الموسيقى الكبير” للفارابي (870-950) ومن ثم الى “الرسالة الشريفية في النسب التأليفية” وكتاب “الأدوار” لصفي الدين العمروي البغدادي (1225-1294) وأثّر هذان الكتابان الأخيران في التفكير النظري الموسيقي الشرقي وخاصة لدى الفرس والأتراك. خمسة قرون تمضي لتأتي “الرسالة الشهابية” في مجلة “المقتطف” لميخائيل مشاقة (1800-1889) فتحيي النظرية الموسيقية العربية من جديد، وتوسع دائرة تقسيم الديوان الموسيقي الى اربعة وعشرين صوتاً وتحدّد بالقياس العلمي ما تعرّفه بـ”ربع الصوت”.
ومنذ نهايات القرن الثامن عشر اكتسبت الموسيقى العربية عنصراً بنيوياً جديداً هو التدوين الموسيقي، لتتحوّل هذه الثقافة من تناقلها الشفوي الى موقع ثابت لا يحتمل إلا التنويط الموسيقي. ووفرت الابتكارات الغربية من اذاعة واسطوانة وفيلم وتلفزيون سرعة انتشار هائلة للموسيقى. والى ذلك انتقلت الموسيقى الى المسارح وارتبطت انطلاقة الفيلم بالأعمال الغنائية لمداخل طويلة منذ تأسيسه.
واخذت الحداثة العربية في الموسيقى عند عتبات نهضتها الأولى انتقالات نغمية ومقامية لم يعهدها السماع العربي (“طلعت يا محلا نورها” لسيد درويش) الى كونشرتو كامل لآلة العود منفردة (المدرسة البغدادية/ الشريف محيي الدين حيدر) الى الغناء التقني الحديث لصوت الرأس (أسمهان) كاضافة جديدة لغناء الحنجرة (أم كلثوم).
لم تدم ويا للأسف انجازات الحداثة الموسيقية. فمظاهر الحشو في المشهد الموسيقي أصبحت هي الغالبة. وتشخّصت الموسيقى في شكل الأغنية. موضوعها رتيب وروتيني في الأحداث الكبرى والصغرى، فهمشت بذلك طموح الحداثة الأولى في جيل النهضة والأجيال الموسيقية الفتية. كيف نواجه هذه الاجتياحات الغنائية بصيغ وقوالب بنيوية جديدة في الموسيقى العربية في ظل اتساع الهوة بين الذوق العام السائد والنوعية الموسيقية؟يبدو أن أملنا الوحيد كموسيقيين ان الموسيقى ما زالت مسموعة. وبغضّ النظر عن نوعيّتها. ففي رسالة شهاب الدين بن حجر الهيثمي (توفى في 1565) عنوانها “كَفّ الرّعاع عن محرّمات اللهو والسّماع” يحرم السماع ويفاخر بأنه كسر الآلات الموسيقية وعاقب الموسيقيين.
Comments are closed