عــــدالة
جسدت رواية “الصبار” للروائية الفلسطينية سحر خليفة في ترجمتها الالمانية أول مدخل لي للإذاعة النمساوية في أواخر الثمانينات. فالرواية تُرجمت الى الالمانية ونالت اهتمام المتتبعين للأدب القادم من خارج القارة الاروبية. ومن ميزات الاذاعة النمسوّية الرسمية، حيث كانت أنذاك الاذاعة الوحيدة قبل خصصة موجات الاثير، انها كانت وما زالت تنتج البرامج الأدبية وتكون الموسيقى مرافقة لها. ويقوم ممثلون محترفون بقراءة النصوص المختارة ويتم إخراج حلقة أدبية بامتياز ويُشَجع المستمعون على شراء الكتب الادبية.
أُختيرت بعض الاغاني مني لاستخدامها في البرنامج وسُألت من مخرجة البرنامج اذا كنت عضواً في جمعية حقوق المؤلفين والناشرين الموسيقين في النمسا. لم أكن على إطلاع بهذه الجمعية وأنا ما زلت في خضم اكتشاف طريقي، أي الموسيقى لم تكن مهنتي، حيث لم أدر انذاك أن الموسيقى قد تكون مهنة.
المخرجة شرحت لي أهمية الانضمام الى الجمعية كونها المؤسسة المعنية بحماية العمل الموسيقي وإدارة الاموال المُستحقة من لعب هذه الاعمال في الاذاعة أو في المسارح وتحويلها لمن يُدعو أصحاب الملكية الفكرية. لم أفهم أنذاك الكثير مما قالته الُمخرجة وأعتقدت ان مثل هذه الجمعيات لا تضم سوى المتخرجيين الاكاديميين وانا كنت على عتبات الدخول في المجتمع النمسوّي وحل رموزه المختلفة حيث لم أُعير دخول الجمعية أي اعتبار.
سنوات مرت وأصبحت الموسيقى الحيز الاول في حياتي وصدرت أول اسطوانة لي في العام 1994 بعنوان “دواير”. وحازت الاسطوانة على قسط من الاعجاب ولُعبت في عدد من البرامج الاذاعية وكانت من الضرورة بمكان دخول الجمعية. وبعد انجاز الاوراق الادارية واكتشافي ان الجمعية تضم كل من كتب نصاً غنائياً، أو لحناً او نشر عملاً موسيقياً، وتصون الاعمال المُسجلة وتُدير الاموال المُحصلة من المسارح، الاذاعات وقنوات التلفزة. واكتشفت ايضاً ان الجمعية تفرض ضريبة على كل مؤسسة تستخدم الموسيقى، بمعنى أي شركة تجارية تستخدم الموسيقى على سبيل المثال في اجهزتها الهاتفية عند الاتصال بها أو المطاعم التي تُرفق زبائنها بالموسيقى المُسجلة لتسهيل عملية الهضم عندهم، يدفعون الضرائب السنوية، او الاسطوانات الفارغة والتي تٌشترى لدمجها على مستوى فردي غير تجاري تُفرض على صانعيها أو مستورديها ضريبة استباقية، كونها تُستخدم لنسخ الموسيقى أو الافلام. وهذه الضريبة بالتحديد تُوزع على اعضاء الجمعية بنسب الدخل المالي السنويّ من الجمعية.
لن أتعمق في تفاصيل أكثر في تكوين الجمعية ولكننا نحصد كأعضاء لها ثمرة ما خاضه فنانون سابقون رحلوا عنا ولكنهم كانوا حريصون على استحقاق حقوق المؤلف وليس على مستوى بلد معين انما على مستوى العالم.
قصة صغيرة تستحق الاشارة لها وقد تَهم من يؤمن بموضوع العدالة. طلب مني صديق مسرحي سويسري تلحين موسيقي لعمله المسرحي “ألانسة جولي” للكاتب السويدي اوغست ستريندبرغ (1849-1912). العرض سيكون في أحد المسارح الڤينوية الصغيرة والتي تُسمى بالمسارح الحرة، أي ليست مُلك الدولة. وفكرة التلحين كانت ترتكز على مُرافقة الشخصيات الرئيسية الثلاث في المسرحية بلحن دائم ويُسجل سابقاً وهذا ما تم. بعد سنة وصلني بلاغ الجمعية بالمحاصيل السنوية للأعمال الموسيقية التي لُعبت لي وكان من ضمنها الحان المسرحية. ولم أستطع معرفة وتحليل المبلغ المالي العائد من المسرحية حتى أني لم أكن أصلاً متوقعاً ذلك. فأتصلت بالجمعية مستفسراً عن كيفية تحصيلي لهذا المبلغ. وشرحت لي الموظفة الادارية بأن المبلغ تكوّن من مجموع مبيعات التذاكر من كل العروض المسرحية، وكل تذكرة تم بيعها تتضمن تغطية نسبوية لأصحاب الملكية الفكرية ، أي كاتب النص وكاتب اللحن. صُدمت من دقة الموضوع والحسابات وكيف أن مسرحاً صغيراً يعمل كأي مؤسسة ثقافية كبيرة، وكيف أن الجمعية تتعامل مع أي عمل موسيقي بتساو بغض الطرف عن صاحبه ومن يستخدمه.
الجميل في هذه العدالة أن المؤلف يكون على إطلاع اين ومتى لُعبت أعماله حتى لو لم يُسأل صاحب العمل الموسيقي. فكل الجمعيات في اوروبا مترابطة مع بعضها البعض ويتوازعون الاموال المُستحقة لأعضاء الجمعيات. والاجمل من ذلك أيضاً أني أتحدث عن مبالغ قد تكون متواضعة جداً أو قد تكون كبيرة جداً. المحزن لي شخصياً بموضوع هذه العدالة، رغم حضوري المتواضع في وسائل الاعلام والمسارح العربية، بأن الدولة الوحيدة في هذا المشرق العربي، والتي وصلني منها مستحقات لعب أعمالي الموسيقية هي الدولة العبرية.
Comments are closed