لا شيء غير الحب
يعتقد الكثير منا أن الموسيقي العربي المقيم في الغرب يعزف ويُطرب الجاليات العربية المتواجدة هنا وهناك. ويبدو ان هذا الاعتقاد مرجعه قناعة راسخة، ان الموسيقى العربية لا يفهمها الا العرب. وحين يعاين المرء مفهومنا كعرب عن الموسيقى يكتشف سر هذه القناعة. الموسيقى، واختصاراً للموضوع هي الاغنية في وجداننا، والاغنية في حياتنا مرتبطة باللهو والانبساط، عجقة عرس، مطعم وكأس ومسرح. وموضوع الاغاني عموماً والتي نعتز فيها من تراث قديم، من نهضة بعض العرب، أو من الاغاني المشعشعة في صالونات الحلاقة والمطارات ومصاعد الابراج العملاقة، هو الحب، ويبدو أن لا شيء غير الحب في هذه الثقافة يستحق الغناء.
ويعتقد المستمع من خارج اُذن السماع العربية، بأن الحب في بلادنا مُنتشر في الشوارع وعلى الارصفة اذا تواجدت. رغم كل هذا الحب المُغنى، الرفيع وفاقد المعنى، نرى ان نقيض الحب هو الوكيل الحصري في حياتنا. ونملك سياسة باتت احتكارية، لا ينافسنا فيها أحد من مختلف الثقافات، في الكره والتكريه وفي المنع والابعاد.
والثراء الاكبر الذي عايشته وما زلت أعيشه، رغم أني أغني في لغتي المكتسبة الاولى وهي العربية وأعزف العود العربي والشرقي، ثرائي الشخصي هو أنني لم أحدد جمهوري. الموسيقى، وهي لغتي المُكتسبة الثالثة بعد انكليزية المدارس الخاصة في بيروت وقبل دراستي الالمانية، سنحت لي أن أعزف لجمهور مستمع، اضافة لموقف شخصي يعزز مواقع الاستماع. وهذا لا يلغي بعض الهفوات مني بتحريض الجمهور للغناء حينا، أو في حضورعفوي لنكتة ساخرة تحرك بعض الركود. لكن يبقى فعل السمع والاستماع هو ملكة من يريد ان يتعبد بالموسيقى، ومن يريد أن يحلق بعيداً عن ضغوط الساعات النهارية، ومن يريد ان يشعر بوحدته في عالم السلام الموسيقي، أو لمن يريد تخفيف سرعة هذه الحياة.
وهذا الثراء الشخصي في عدم تحديد جمهوري جعلني أكوّن لغة موسيقية خاصة. وهذا الانفراد لم يأت من وعي شخصي ونرجسي كاسح، أو عبقرية موسيقية تفتقت في بداية مشواري، بل من تجارب نمت في حدتها ونعومتها قناعاتي الشخصية في الموسيقى. كما نقول في معجم امثالنا بأن القناعة كنز لا يفنى، وأسمح لنفسي بتتمة هذا الفصل من معجمنا العربي الكبير في الاقوال دون الافعال (عنوان كتاب لا بئس به)، القناعة تفني صاحبها ولذلك لا تُفنى لأن الناس وبعد أن يحتنق و يحترق صاحب القناعة يتكلمون عنه وكيف أن قناعته اوصلته الى قاع الهاوية، فتبقى ذكرى تلك القناعة. ما زلت أكتب هذه السطور من خارج الهاوية لشعوري بأن ما أعزفه يشاركني فيه وجوه لا تحمل اعلام أوطانها، ولا وطأة لغاتها.
بالطبع هناك من يراني كموسيقي فلسطيني، وآخرون كلبناني، وبعضهم كفلسطيني من لبنان، والبعض آلاخر كعربي من النمسا، والكل صائب في هذا، باسثناء شخصي أنا، لعدم توفر القدرات العقلية والبدنية الشخصية لتحقيق مجمل هذه الوطنيات ومترتباتها. وعلامات فشلي في ذلك هو أن الفلسطيني يعتبرني من تربة زعتر فلسطين، واللبناني من طينة بيروته، والنمساوي من ناصية المندمجين في مجتمعه. ولكن لولا الموسيقى لم تفح رائحة الزعتر البريّ، وهنا لا أعني مناقيش الزعتر، ولم تنم لوعة الفن من بيروت، ولم أكتشف الموسيقى العربية في ڤينّا. لن أدخل في مواضيع رؤى الغالبية في المذاهب والطوائف، حيث العبارة تضيق ولغة الكلام تتعطل.
هذه القناعات، اي لغتي الثالثة، أوصلتني الى مدن وأماكن نائية من هذه القارة الاوروبية وخارجها، رغم الصور السلبية السائدة عن الفلسطيني، عن اللبناني، وعن العربي بشكل عام. وهنا لا أتكلم من موائد المسترخين والقانعين بأن مجمل هذا العالم لديه عُقدة تجاه العرب، بل من موقع الفاعل والطارق والعازف. وكم بَددّت اقوال المستمعين بعد العديد من الحفلات غيوم الاستباق العاجل. يأتيك أحد المستمعين بين أودية جبال مقاطعة التيرول النمسوية، حيث تم اكتشاف أقدم جثة تاريخية مطمورة تحت ثلج لا يقبل التبدل ولا يعترف إلا بفصله الشتائي ولم تصله الا حرارة لاذعة البرودة ليتجدد في بياضه، ليقول هذا المستمع بأنه شعر بشوق بعد الحفل الى مدينة ڤينا. وكأني كمهاجر الى النمسا أُذَكر هذا الشخص الذي لم يغادر أودية جباله، بعاصمة بلاده العريقة. أو أن تعزف في قرية فرنسية تقع في جبال الميدي-البرينيه يصل عدد بيوتها الحجرية خمسة عشر، وللوصول الى مهرجانها الادبي- الموسيقي تستخدم في يوم واحد الطائرة، ثم القطار، ثم السيارة، ثم ما تبقى منك من قوة تنقلك الى أحد أسرة البيوت الحجرية. وعندما تشاهد هذه البيوت تعتقد أن كلمة مهرجان مُبالغ بها بعض الشيء، أو سكان القرية يصيبهم الوهن حين يتضاعف عددهم ويصبحوا نحو الخمسين فرداً فيسموا وجبة الطعام الجماعية مهرجاناً. والمفاجأة ان تشاهد المئات من القادمين من مختلف المناطق المجاورة ومعظم المشاركين في المهرجان ذو أسماء لامعة في الفن والادب.
أو أن تكون ممثلاً لدولة النمسا في مهرجان آلالات الوترية في مدينة الرباط المغربية، وتلقى نفسك أنك العواد النمسوي-العربي الوحيد في هذا المهرجان، أو الوحيد كعربي-نمسوي يعزف العود. هل كانت صدفة أن تكون النمسا من الدول المهتمة بالمشاركة في هذا المهرجان بالاضافة الى تركيا عبر عواد اناضولي أصيل، وكأن العوادون قلة في بلادنا العربية؟
أو أن تقرر كموسيقي في أحد أديرة الموارنة العتيقة في قرية بحردق اللبنانية، والتي أوصلني أياها أنذاك راعي أبرشية فرقتي الثلاثية الاستاذ جورج الزغبي مشكوراً، ان يُقام الحفل في قبو الدير دون أجهزة تكبير الصوت، ليصفق الجمهور معتبراً ان حفلة موسيقية دون أجهزة الصوت تُعتبر سابقة لهم. أو ان تتحادث مع صحافية في بهو احد الفنادق وتناولك سؤالاً لأول مرة تسمعه. أول سؤال لم أسمعه من قبل، استحق مني التخلي عن اريحية الاريكة والوقوف احتراماً لصاحبة السؤال قائلاً: هل تسمحِ لي تقبيل جبينك؟ ابتسمت وسألت عن السبب. ليست القبلة تعبيري الوحيد عن الاحترام، بل سبق سؤال السماح انحناءة الموسيقي للجمهور. قلت لها أني لأول مرة أُسأل عن النهايات الموسيقية المفتوحة في عملي، وهذا سؤال عظيم، والشيء الاعظم هو تحسس المُستمع للنهاية المفتوحة، وتخلي الموسيقي عن دور القفلة المركزية، عن دور الابهارالسطحي و البطولي، وأن يصفق الجمهور من جانبه دون أن يشعر ان آخر نوتة موسيقية قد عُزفت وجاء دوره في التصفيق. والقفلة المفتوحة قد تعطي مساحة للمستمع ليجول وللفنان التنصت للصمت او لتنفس الحاضرين، وقد لا تعطي شيئاً، ولكنها تبقي مكاناً دافئاً للجميع. والاسئلة التي تصيب أعمدة القناعة الشخصية، تبعث الفرح لوصول الفكرة أصلاً، كون البعض من البعض الكثر، وما أكثرهم، يعتبر القفلة الموسيقية المفتوحة ضعفاً وأحد علائم الاستسلام.
وحدها قبلتي على جبينها، ولطمأنة الذين وصلوا لقراءة هذه السطور من اليوميات ولكون القبلة أحد تعابير الحب ولا شيء غير الحب يستحق الغناء، كانت مُقفلة.
Comments are closed