وصية
وصية
خرجتُ من صف المدرسة وخلفي ورشة أطفال أكابر. هي معركة مع أطفال أكابر ولكنها تُدعى ورشة عمل موسيقية حتى لا ترتفع تسعيرة الورشة، كون المعارك أغلى بكثير من الورشات. وشخصيا أنا لست متخصصاً بأولاد الاكابر انما مدارسهم لديها الايمان، ولو بحدوده الدنيا، بالتربية الموسيقية. قالت لي المُشرفة على الصف بأنها يمكنها ايصالي الى فندقي القريب، وفي عينيها بريق لطف وأحترام لم أستطع ممانعته. دخلت السيارة وخرج مني نفس طويل، كأنه صفير الخلاص من المعركة المسعورة.
ابتسمت وقالت ان الاولاد كانوا مذهولين بالورشة. قلت لها ان صفيري هو أيضاً تعبير عن ذهولي. لأول مرة يشرف على هذه الورشة موسيقي عربي، والمدرسة تقع في قلب بيروت. الافرنجي برنجي. نعلم أطفالنا القراءة والكتابة، ونزودهم بعُقَد النقص تجاه أنفسهم. بعضهم سيكون طليعياً في المدرسة، وبعضهم قد يرسب، ولكنهم متساوون في عقدة النقص.
هؤلاء الاطفال يعتبرون أن الاشياء الجميلة تأتي فقط من الغرب. وللأسف حضرتي آتٍ من الغرب أيضاً.
تبتسم المُشرفة وتقود السيارة ببطء شديد.
قلت لها انها فعلا ماهرة في القيادة وستكون ألاولى في سباق السُلحفاة الدولي. عندها قالت لي ان أول مرة تسمع فيها موسيقى عربية كان في حفلي في بيروت. نسيت المعركة والورشة. قلت لها ان هذا شرف لي ويسعدني ذلك كثيراً، يستطيع الموسيقي أن يستحم في المديح فلن يتراجع عن ذلك. لكن هل تنتظرين موسيقياً آت من الغرب، حتى تتعرفي على الموسيقى العربية! كنا قد وصلنا الفندق وهي على الارجح ستخسر التأهيل لسباق السُلحفاة الدولي. قالت لي بأنها كتبت وصيتها. نسيت الموسيقى الشرقية والغربية، وسألتها اذا حصل شيء ما، خاصة انها ما زالت في ربيع حياتها. ابتسمت مجدداً وقالت ان أغنية التنويمة في إحدى اسطواناتي، تريدها ان تُلعب على قبرها عندما تموت. هذه هي وصيتها. لا تريد صلواتا، لا مشايخ ولا قساوسة، فقط هذه الاغنية. هي عاشقة لهذه الاغنية.
لم أسألها اذا كانت تعشق صاحب هذه الاغنية أيضاً. لقد كانت جادة في ما تقوله، وتعنيه ولا أعتقد انه اشهار حب. هل يُعلن عن الحب بالتصريح عن نقيضه، أي بكتابة وصية الموت. مجدداً تنفلت الاغنية من مكونِها ومالكها الفكري الى اماكن بعيدة يَصعب للخيال الشخصي أن يصلها. انه خيال المُتلقي للفن. تهليلة تعوض عن صلوات دينية، تلغي مراسم الدفن المتعارف عليها وتَخَسر بعض الصحف اعلاناتها. فكرة عظيمة لشرق يعمل فيه الموت ليل نهار. قبلتها وودعت أغرب فكرة في حياتي. انه ثراء بشري فاحش ان يفكر المرء في ربيع حياته بمراسيم دفنه.
صعدت الى غرفتي وانزلت على رأسي ماءً وفيراً اراحني من عبء الاغاني.
Comments are closed