وما ادراكم ما هي البرتغال
وما أدراكم ما هي البرتغال
نيسان 2008
“مساء الخير، أنا موسيقي مثلي مثلك وأنتمي الى مجموعة عسكرية في البرتغال، وأريد دعوتك الى جولة تضامنية مع الشعبين العراقي والفلسطيني الى البرتغال”. هذه كانت كلماته عبر الهاتف، مستوضحا مني برنامجي وامكانية مشاركتي في هذه الجولة. لم أستطع الجواب وتمنيت عليه أن نتراسل عبر بريد الشبكة الكترونية.
كنت قد عزفت في البرتغال وأعجبت بها كثيراً، خاصة أنها تتمايز كثيراً عن الدول الاروبية الاخرى حيث سمات التواضع والمودة تجاه الاجانب اضافة لجمال العاصمة وهيبة ساحتها المركزية. وأجمل ما شَدَّني هو وجود اصحاب المهن اليدوية ومحلاتهم المنتشرة في العاصمة، وهذا الانشداد هو مرض شخصي لدي لأني احب مشاهدة المنتوجات اليدوية، ولن اعالج هذا المرض حيث أصبح المرء يشاهد في مجمل العواصم نفس اسماء المحلات التجارية والمطاعم مع صبغة وطنية تشمل عادة قياسات الناس وعادتهم المحلية.
بالطبع اريد المشاركة، ولكن لم أفهم انكليزية المتصل وخاصة موضوع المجموعة العسكرية. هل هو من الجيش الاحمر أو من تجمع يساري مسلح يريد تحرير أوروبا عبر فلسطين والعراق. واذا كانت هذه المجموعة مسلحة، فعلى الارجح يجب أن تكون سرية ولكنه كان يتكلم بكل طلاقة عن الموضوع. لم يبدد غيوم تساؤلاتي سوى بريده السريع وبرنامج الحفلات الممتدد على خمسة مدن برتغالية، وأسماء الموسيقيين البرتغالين المشاركين في الحفل. رغم عدم معرفتي بمجمل الاسماء، لكن ماكينة البحث في الشبكة العنكبوتية أظهرت أن الاسماء هم من نجوم الاغنية البرتغالية، والمتصل أحد رموزها المعروفين.
أزحت موضوع المجموعة العسكرية عن ذهني وانشد تفكيري نحو تواضع هذا الشخص المتصل فيَّ شخصياً، وبرمجته لبرنامج فني سياسي كتعبير عن رفض الاحتلال الامريكي للعراق ورفض السياسات الاسرائيلية في فلسطين المحتلة، والاجمل من كل ذلك انه لن يكون في الحفلات أي كلمات سياسية، بل بيان صحفي يسبق الجولة الفنية ويعبر عن ارادة الموسيقيين المشهورين والمشاركين في هذه الفعاليات. وهذا النجم الموسيقي سيكون في استقبالي شخصياً في مطار برشلونة، وكيف أنه متأسف سلفاً عن تواضع الفندق ولكن أوضاعهم المالية لا تسمح بغير ذلك.
وصلت المطار وكان في انتظاري. يرتدي بدلة مريحة مع قميص عادي وحذاء رياضي، وحرارة استقبال تشكك أن مُستقبِلك من القارة الاوروبية. رغم ازاحتي لموضوع المجموعة العسكرية عن ذهني، لم تمنعني الازاحة عن الاستفسار عن هذا الموضوع في طريقنا الى الفندق. ويبدو ان ميزة اللغة الانكليزية وحتى حينما لا يفقه اثنان متحادثان في هذه اللغة، تصل الى نتيجة معينة تستخرج منها السياق العام ويستطيع المرء الفهم ولو بحدوده الدنيا. وما فهمته من اللغة الانكليزية على النمط البرتغالي ان المجموعة العسكرية هم من قاموا بالانقلاب على الديكاتورية في تاريخ 24.04.1974 ومهدوا الطريق للديمقراطية في البرتغال. وهذه المجموعة من الضباط ما زالت ناشطة ولها العلاقات الواسعة مع مختلف الشرائح الاجتماعية في البرتغال.
اذا كان احترامي تنامى للسيد جوزيه ماريو برانكو عبر البحث في الشبكة العنكبوتية، فقد بلغ هذا الاحترام ذروته قبل وصولي الفندق. لم أكن في حضرة موسيقي، انما في مدار واسع من الفكر والايمان بعالم أفضل، سمته الاحترام المتبادل والتضامن مع الضعفاء اينما كانوا. أوصلني الفندق وأخبرني عن موعد الغذاء مع الاصدقاء قبل التوجه الى الحفلة الاولى والتي تقع في شمال البلاد وتُدعى “كويمبرا”. اصدقاء الموسيقي أتوا الى موعد الغداء مع زوجاتهم وبلباس المدني المتواضع. انها المرة الاولى اجالس أحد الضباط المتقاعدين، والمرة الاولى التي أُسأُل فيها من قائد عسكري عن أحوال الضعفاء في بلادي. وبعد انتهائنا من طاولة الكرم والطعام البرتغالي الشهي وشرب نبيذهم الاحمر الذي مانعه الاخوة المشاركين من الشتات العراقي، وقف القائد العسكري مودعاً ويقول شكراً. ووقفت أنا، وكأني ممثلا شرعياُ ووحيداً للشعب الفلسطيني، شاكراُ للدعوة. ولكنه كرر شكره قائلاً: نحن نشكركم لانكم تقاومون. هززت رأسي ولم أستطع قول شيء البتة وأحسست بروعة عدم تمثيلي لاي أحد سوى لشخصي. هذا القائد العسكري المتواضع جداً والذي يُعرف باسمه الاول “أوتيلو” كان مرشحاً للرئاسة البرتغالية عام 1976.
وهكذا بدأت الجولة وأصعب ما فيها هو حفظ اسماء الاشخاص الذين تتعرف اليهم. البرتغاليون يمتلكون اسماء طويلة بعض الشيء وأقصرها ثلاثي وأول اثنان منها يُعتبران الاسم الاول وهذه الخصوصية البرتغالية صعّبت عليّ استيعاب الاسماء ولفظها السليم. وأجمل ما في هذه الجولة هو معرفتي لقصة أغنية محفظوة عن ظهر قلب من كل البرتغاليين. وهذه الاغنية خرجت عن ذاتها لتصبح ملحمة البرتغاليون منذ الانقلاب حتى يومنا هذا. فأغنية الموسيقي المغني بولو دي كارڤالو “وما بعد الوداع” عشية ثورة القرنفل في الاذاعة البرتغالية كانت إشعاراً لضباط الانقلاب بالتهيؤ واعلان الاستنفار العام. وطبعاً لم يكن الفنان على علم بذلك، ولكن الاغنية وصاحبها أصبحا من أيقونات الثورة التي انهت العهد الديكتاتوري. وفي حفلنا التضامني في المدينة الصغيرة تورش نوڤاش وفي مسرح “ڤيرجينا” كان جمهوره بانتظار هذه الاغنية. وبعد مراجعتي لنص هذه الاغنية اتضح لي انها اغنية حب بامتياز، حيث يقول المقطع الاول منها:
„ وددت معرفة من أنا، وما أفعل هنا
ومن تركني، ومن نَسيتُ أنا،
سألت نفسي، واحببت معرفة من نحن
ولكن البحر لم يجلب لي صوتكِ.
في السكون، يا حبي، وفي الحزن الاخير
اتحسسك كوردة، اتحسسك تجرحيني،
أتذكرك، الوداع هو الموت
كالحب فيه الربح والخسارة“.
أما الاغنية التاريخية الثانية وهي اغنية سياسية بحتة وكُتبت في عام 1964 وسُجلت في المنفى الباريسي وأشرف عليها السيد جوزيه ماريو برانكو واسمها “غراندولا،ايتها الارض البُنية اللون”، كانت الشيفرة الثانية لضباط الانقلاب بالنزول الى الشوارع. وهذه الاغنية كانت ممنوعة في العهد الديكتاوري في البرتغال ومجرد بثها عبر الاذاعة الرسمية كان فعلاً رمزياً لجميع البرتغاليين بالزوال القريب للعهد الديكتاتوري. أما صاحب الاغنية الفنان زيكا آفونزو، والذي لم يكن حزبياً، بات من رموز الثورة وغادر الحياة في عام 1987.
اما كلمات الاغنية فيقول مطلعها:
„ غراندولا،ايتها الارض البُنية اللون
أرض الإخاء
فيك يحكم الشعب، ايتها المدينة.
خلف كل زاوية صديق،
وفي الوجوه تساوٍ.
في ظل سنديانة، لم تعد تدرك عمرها
عاهدتك ايتها المدينة الوفاء.“
إنها حكمة الضباط أنذاك ان تكون أغنية شيفرة اذعان لثورة تُسمى ثورة القرنفل لعدم دمويتها، والاغنية الاولى بالذات كانت قد حصلت بنحو اسبوعين من الانقلاب على المرتبة الرابعة عشر في مسابقة اليورو فيجين الاوروبية عام 1974 وبعد الثورة على المركز الاول في قلوب البرتغاليين.
Comments are closed