يوميات موسيقي
مقدمة
الموسيقى مهنة صعبة، ولا تكمن الصعوبة في أن يكون المرء موهوباً ويتلقى العلم والمعرفة الموسيقيين من أجل ممارستها، انما في حجم الصور المُسبقة، شرقاً وغرباً، عن الموسيقى والموسيقيين وحياتهم. ورغم التنوع الهائل بين تجارب الموسيقيين، اشعر بأن صورهم ثابتة في مخيلة الاخرين. بدأت شخصياً بالاهتمام بالموسيقى والرسم في سن مبكرة، وانفرجت أسارير والديّ عندما اعتقدا أن آخر عنقودهما لن ينجرف بأجواء الحرب والسياسة السائدة في بيروت الثمانينات من القرن المنصرم، حتى اكتشفا بعد فترة وجيزة هروبي الدوري من المدرسة للغناء مع إحدى الفرق البيروتية أنذاك. والانكى من ذلك ان الاغنية السياسية كانت في صلب موسيقى الفرقة، مما أدى الى انقباض أساريرهما بسرعة ودفعهما لتوضيب حقيبة سفري والتنسيق مع كبير عنقودهما المقيم في ڤينَا حتى يتم اخراجي من بيروت. وقبل خروجي من بيروت، مرت عليّ محاضرات طويلة كان موضوعها الموسيقى. هذه المحاضرات كانت عبارة عن مجلدات تربوية عن عدم جدوى الموسيقى ودراستها، حيث أنها لا تطعم خبزاً، وما أعظم أن يكون المرء طبيباً، على سبيل المثال لا الحصر، ويمارس الموسيقى كهواية.
خروجي من بيروت كان شبه رحمة الخلاص من المدرسة والمجلدات التربوية المُرفقة بموسوعة الامثال الشعبية الواعظة، والتي تبدو انها من أهم ممتلكات العائلات الشرقية. لم تمض فترة وجيزة على اقامتي في ڤينَا إلا وأصبحت اعزف وأغني في حفلات الطلبة ولجان التضامن مع الشعوب، وبعض الوعظ العائلي يعود اليَ في الاحلام، أو يأتيك برسالة بريدية. وبعد التحاقي بكلية العلوم الموسيقية في جامعة ڤينَا، أسست فرقة موسيقية رباعية كنت فيها العربي الوحيد. كانت اسئلة الاخرين ورغم برودة الطقس تأتي حامية وكأنها صحرواية: ما هي هذه آلة الموسيقية، وما اسمها، وهل المقطوعات الموسيقية من الفلكلورالفلسطيني، هل أنا صوفي، هل أعيش وأعتاش من الموسيقى؟
هذه القارة الصحرواية من الاسئلة والنصائح الاسرية التي تهطل على كل من أشهر عن موهبته الموسيقية، لم يسعفني في مواجهتها سوى عناد غير متواضع وبعض مسكنات الصبر. أكتب هذه السطور وفي ذهني العشرات ممن دفنوا أو دُفنت مواهبهم الموسيقية في تلك القارة الصحرواية. اليوم وأنا امارس هذه المهنة منذ خمسة عشر عاماً بشكل احترافي وبقناعة المنحرف عن السائد، أكتب يوميات عن هذه المهنة الصعبة. وكتابة هذه اليوميات هي من موقع المتعة والمستمتع في ممارسة هذه المهنة وليس من خندق العويل المؤجل الى سن التقاعد، كون هذه المهنة لا تعرف سناً للتقاعد.
أخيراً، استدراجي في كتابة سطور اليوميات لم يكن ممكناً لولا الاب الروحي ” م.ش “. وهذه الصفة له هي اختصار مكثف لعلاقة امتدت لسنوات طويلة، سمتها الاولى هي انه كلما نلتقي وأهم بوداعه بعد حين، يتملكني الشعور بأني ازددت معرفة له الشكر والامتنان.
Comments are closed